الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة لماذا نجح مهرجان الحمامات دون غيره من الفعاليات الأخرى؟

نشر في  21 أوت 2017  (14:21)

بقلم : حاتم التليلي
 
تنبّه مهرجان الحمامات الدّوليّ في دورته الثالثة والخمسين، دون غيره من المهرجانات، إلى خطورة الفعل الثقافيّ من حيث انتسابه إلى منطق تجاريّ محض، إذ علت أصوات في السنوات الأخيرة إلى ضرورة مراعاة ذوق الجماهير، أو لنقلها بصراحة: لقد راهنت على المبتذل من المنتوج الفنّي بتعلّة أنّه الأكثر نجاعة في استقطاب النّاس، والأكثر قدرة على توفير المداخيل، ولكنّها في المقابل تناست عن جهل بغيض أنّ تلك الجماهير صار لها من الوعي الثقافيّ ما يجعلها تصطف وراء أعمال فنّية رفيعة الذّوق لا تلك التجارية القائمة التي يحرّكها منطق السوق، إذ هي جماهير رغم حيف الحقبة التاريخية التي تعيشها سياسيا وأمنيا واجتماعيّا، وجدت في الفرجات الوسائطية بديلا عن تلك "الخردة الفنّية" التي يريدها البعض أن تظلّ سائدة.
راهن مهرجان الحمامات، على تقويض ادّعاءات تلك الأصوات، حتى أنّ عروضه المبرمجة ، بنسبة ثمانين بالمائة، تكاد تكون قد تخطّت السائد من الفعل الثقافيّ في مهرجاناتنا الصيفيّة، ثمّ إنّها في المقابل نجحت جماهيريّا أيضا، وهذا ما يفتح مسلكا للحديث عن كيفيّات شدّ الجسور بين المنجز الابداعيّ وجمهوره. لا يكفي أن نقدّم للمتلقّي ما يريده أو ما يعرفه، بل علينا تحريضه على التفكير، وعلينا مفاجأته بفتح ثغرات من خلالها يتعرّف على أشكال فنّية وأعمال أخرى يجهلها، أو ربما لم تتسنّ له القدرة على التفكير حتّى في أنّه سيشاهدها ذات يوم. إنّ مهمّة الفنّ لا تكمن في جوانبه الاستهلاكية من قبل الجماهير، ولا تكمن في تشغيل المبتذل وتكريس سياسات التجهيل. على العكس إنّ مهمته الحقيقيّة تتخطى ذلك، وتحاول قدر المستطاع أن تنمّي الحسّ الحواريّ والبعد الاشكاليّ في العقول، إنّها بشكل أو بآخر بقعة الضوء الأخيرة، والأمل الانسانيّ الأخير، في زمن تطحنه الأصوليات وتدرسه المخاوف والرعب وانتصار الخرافة.
على غرار ثلاث ندوات حاولت تأصيل الأسئلة الاجتماعية والأنثروبولوجية الحارقة ضمن مسألة الهويّة ومحاولة استنطاق الآتي في ضوء راهن الانفجارات الثورية وحقول الدم، كان قد شارك فيها العديد من المختصين (اعلاميين وروائيين ومفكرين وأكاديميين ومبدعين). وعلى غرار جملة من العروض المتنوّعة شهدها المهرجان خارج أسوار المسرح، موسيقية ومسرحيّة، حيث شهدت اقبالا جماهيريا مكثّفا بعد أن تمّ بشكل أو بآخر تشريكها في الفعل الابداعي والفني من حيث التوجّه إليها، فكان أن تمّ تشغيل ضرب من ضروب الاحتفالية في الأفضية المفتوحة ومن ثمّة تهيئتها لتكون عنوانا لما هو ثقافي يبشّر بزراعة الحياة عوض ثقافة الموت التي تحاول قدر المستطاع أن تحتكر تلك الأمكنة بغاية غسل العقول وتحويلها إلى مصنع لتخصيب الظلام.
على غرار ذلك، وإذا ما أقصينا قلّة قليلة من العروض المبرمجة داخل الأسوار، فإنّ أغلبيتها ذهبت من حيث خلفياتها الفكرية والجمالية إلى محاولة تكريس ذوق جديد ومغاير خارج السائد من ثقافة السوق التجارية، فليس الارهاب وحده عدوّ الفنّ، بل ثمّة أعداء آخرون يريدونه خاضعا إلى منطق البيع والشراء، فإذا به يسقط في البهرج الجمالي كما لو أنّه بضاعة مكدّسة لا أكثر، وهذا ينمّ عن اتجاه يخصي العقول ويكرّس الابتذال بدل إعادة "هندسة العقول" و"صقل الأرواح". نجحت تلك العروض - مسرحيّة كانت أم موسيقيّة- في شدّ انتباه الجمهور، بل وحقّقت له على غرار الترفيه نوعا من الرغبة في تأصيل ثقافة مغايرة له، يتبنّاها بتبنّي منطلقاتها الجمالية والفكرية.
لقد مثّل حضور جملة من المسرحيات وقعا بارزا على تفكير المشاهدين، سواء من حيث قبول أعمالهم والإعجاب بها، أو حتى نقدها ومساءلتها، وربما التفكير معها أيضا، وهم على غرار ذلك، حضروا بكثافة غير متوقعة، ما يقوّض السائد من المقولات بأنّه ليس ثمّة حظّ في نجاح المهرجانات الصيفية بحضور المسرح. أمّا الجانب الموسيقي، فقد حدث وأن كان ثمّة تامر أبو غزالة والهام المدفعي ولينا شامميان وتيناريوان، وحدث أن كان ثمّة أيضا دينا الوديدي وهيام يونس وبات هارت وغيرهم من الفنانين التونسيين ومن شتّى بقاع العالم، ما جعل من الجمهور ينتسب في تفكيره إلى محاورة ثقافات مختلفة ومتعددة أمام نماذج من تلك العروض التي ما فتئت تكريس فنّ ملتزم، حرّ وثوريّ.
سيسدل الستار قريبا عن نهاية هذه الدورة، ليكون الاختتام مع الفنان التونسيّ أنور براهم، بعد أن مرّ هذه الأيام نحو تشغيل عروض أخرى متميّزة، لعلّ من أهمّها العرض الموسيقيّ الذي قدّمه الفنان الباكستانيّ فايز عليّ فايز معيّة الفنان تيتي روبان، ورغم كونه غير معروف بشكل كبير في الأوساط التونسيّة كما كنّا نعتقد، إلا أنّ حضور الجمهور كان بدوره غفيرا، وهو ما يكذّب اعتقادنا في كون تلك الجماهير تفضّل التهريج والتسليّة على أنماط موسيقيّة وفنّية راقية، ثمّ إن العرض الذي قدّمه كان يمثّل شكلا من أشكال التناسج الثقافيّ بين ما هو صوفيّ وآخر موسيقيّ حديث، ما جعله يضفي مساحات من الرّهبة على الجمهور، كنوع من القفز خارج الزمن الدنيوي إلى الزمن الآخروي: ثمّة اضاءة لنقاط انسانيّة معتّمة فينا وذلك هو رهان الفنّ، خارج أن يتحوّل إلى سلاح محض.
لهذه العوامل، نجح مهرجان الحمامات الدولي دون غيره من المهرجانات التي سقطت في "الكيتش" السياسي والفنّي، وعوّلت على العروض التجاريّة أكثر من أيّ شيء آخر، إذ كان يصبو إلى تكريس أفق ثقافيّ جديد بدوره يخلق أفقا سياسيا وفكريا وثقافيا جديدا للجماهير المتعطّشة إلى نوع من الاقامة خارج معادلة الخوف الايديولوجية والأمنيّة المفروضة علينا منذ سنوات، والباحثة عن سبل وبدائل جديدة لإنسان الراهن.
يكفي فقط التمسّك برهانات كهذه، والمحافظة على تشغيلها، والمراكمة لها، فهي حتما ستساهم في خلق ديناميكية نقديّة تفكّك وقائع واقعنا، وتسعى إلى استنطاق تجاربها القديمة، ومن ثمّة قد تؤدّي إلى فكرة النجاح في زراعة المستقبل.